فصل: سورة البلد:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: التفسير القرآني للقرآن



.تفسير الآيات (15- 30):

{فَأَمَّا الْإِنْسانُ إِذا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ (15) وَأَمَّا إِذا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهانَنِ (16) كَلاَّ بَلْ لا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ (17) وَلا تَحَاضُّونَ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ (18) وَتَأْكُلُونَ التُّراثَ أَكْلاً لَمًّا (19) وَتُحِبُّونَ الْمالَ حُبًّا جَمًّا (20) كَلاَّ إِذا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا (21) وَجاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا (22) وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرى (23) يَقُولُ يا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَياتِي (24) فَيَوْمَئِذٍ لا يُعَذِّبُ عَذابَهُ أَحَدٌ (25) وَلا يُوثِقُ وَثاقَهُ أَحَدٌ (26) يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ (27) ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ راضِيَةً مَرْضِيَّةً (28) فَادْخُلِي فِي عِبادِي (29) وَادْخُلِي جَنَّتِي (30)}.
التفسير:
قوله تعالى: {فَأَمَّا الْإِنْسانُ إِذا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ} الفاء هنا للتفصيل والإفصاح عما أجمله قوله تعالى: {إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ} فكونه سبحانه وتعالى بالمرصاد، يرقب العباد، ويرى ما يعملون من خير أو شر- يقتضى أن هناك أعمالا مرصودة مسجلة على الناس، وأن الناس بحسب أعمالهم وإيمانهم باللّه، وتصور هم لجلاله وعظمته وحكمته- ليسوا على حال واحدة، بل هم أحوال شتى وأنماط مختلفة، ترجع جميعها إلى أمرين: الشكر، أو الكفر.
ولما كان المال، هو محكّ الإنسان، الذي يختبر به دينه وخلقه- فقد وضع اللّه سبحانه الإنسان في امتحان إزاء المال، منحا ومنعا، وإعطاء وحرمانا.
فماذا كان موقف الإنسان في هذين الحالين؟.
إنه موقف مختلف، كما يتيّن ذلك من آيات اللّه.
{فَأَمَّا الْإِنْسانُ إِذا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ} ففى الحال التي يفيض اللّه سبحانه وتعالى فيها المال على الإنسان، ويسوق إليه الكثير منه، لا يرى أن ذلك ابتلاء واختبار، كما يرى ذلك عباد اللّه المتقون، وكما يقول سبحانه على لسان سليمان عليه السلام: {هذا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ}.
؟ (40: النمل)- بل إنه يرى أن ذلك الإحسان المسوق إليه من عند اللّه، هو حقّ اقتضاه من اللّه سبحانه، لما يرى في نفسه من ميزات استحق بها هذا الإحسان دون الناس، فيقول كما يقول أهل الزيغ والضلال، فيما أشار إليه سبحانه وتعالى بقوله: {وَلَئِنْ أَذَقْناهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هذا لِي وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنى} [50: فصلت].
فالإنسان ضعيف أمام سلطان المال، وتسلطه عليه، فإذا لم يحضّ نفسه على مراقبة اللّه، وإذا لم يقم على نفسه وازعا يزعه من غلبة الهوى، استبدت به شهوة المال، وصرفته عن اللّه، وأرته الحياة الآخرة سرابا خادعا، لا ينبغى له أن يدع هذا الحاضر الذي بين يديه، ويتعلق بهذا السراب الخادع الذي لا يدرى ما وراءه!! والإنسان هنا، هو مطلق الإنسان، إلا من عصم اللّه، وهم قليل.
وفى قوله تعالى: {ابْتَلاهُ رَبُّهُ} إشارة إلى أن هذا المال المسوق إلى الإنسان، وتلك النعم التي ملأ اللّه بها يديه، هو ابتلاء وامتحان له من اللّه، يكشف به عن شكره أو كفره، وأن ذلك ليس لميزة امتاز بها على الناس، فكما يبتلى اللّه أولياءه بالمال، يبتلى أعداءه به أيضا، فيعطى كلّا من الأولياء والأعداء ما يشاء.. أما الأولياء فيحمدون، ويشكرون، وأما الأعداء فيزدادون كفرا وعنادا.. واللّه سبحانه وتعالى يقول: {وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنا تُرْجَعُونَ} [35: الأنبياء].
وفى قوله تعالى: {فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ} إشارة إلى أن الابتلاء بالإعطاء والمنح، هو- عند من يعرف قدره، ويحسن استقباله- فضل وإكرام من اللّه، وإنه لجدير بالعاقل ألا ينزع عن نفسه هذا الثوب الذي كساه اللّه إياه، ويلبس نفسه لباس الشقاء والبلاء.
فالذين أنعم اللّه عليهم من عباده المكرمين بالملك والجاه والمال والسلطان- يرون فضل اللّه عليهم، وإحسانه إليهم، فلا يكون همّهم إلا إفراغ جهدهم كله في القيام بواجب الشكر للّه، والحمد للّه، أن أكرمهم بهذا العطاء، وعافاهم من المنع والحرمان. وفى هذا يقول سليمان عليه السلام: {يا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هذا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ} [16: النمل].
إنه يهتف من أعماقه، محدّثا بنعمة اللّه عليه، داعيا الناس أن يشهدوا عليه، وهو بين يدى نعم اللّه السوابغ عليه، وأنه إذا لم يقم في مقام الشاكرين للّه، فليعدّوه جاحدا، بل وليخرجوا عن سلطانه الذي مكن اللّه سبحانه وتعالى به على الناس.. ويقول سليمان في موضع آخر، وقد رأى عرش ملكة سبأ ما ثلا بين يديه: {هذا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ} [40: النمل].
هكذا النفوس الكريمة الطيبة، تستقبل الإحسان بالإحسان، وتتلقىّ الخير بالخير.
بل إنها لتضيق بالإحسان، وتراه حملا ثقيلا عليها، إذا هي وجدت ضعفا عن القيام بشكره.. يقول الشاعر مخاطبا أحد ممدوحيه الذين أضعفوا عطاياهم له، وأضفوا إحسانهم عليه.. يقول:
لا تسدينّ إلىّ عارفة ** حتى أقوم بشكر ما سلفا

أنت الذي جللتنى مننا ** أوهت قوى ظهرى فقد ضعفا

وهذا وإن كان شعرا، وكان للخيال منه مكان- فإنه يقوم على أصل أصيل من مشاعر الفطرة الإنسانية السليمة، التي لم يفسدها الهوى، ولم يغلبها الطبع الحيواني المتوحش الكامن في الإنسان.
فالمال نعمة من نعم اللّه، وإحسان من إحسانه، وإنه لمن الغبن لمن أنعم اللّه به عليه، بفضله وإحسانه، أن يشترى به عداوة اللّه، وأن يفتح به إلى جهنم بابا من أبوابها!! فالمال نعمة، يمكن أن ينال بها العاقل طيبات الحياة الدنيا، وحسن ثواب الآخرة.
ولكنه حين يقع ليد الأغبياء المغرورين، يكون عليهم وبالا، وشقاء، في الدنيا والآخرة جميعا.. وفى قارون شاهد عبرة وعظة! وقوله تعالى: {وَأَمَّا إِذا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهانَنِ}.
قدر عليه رزقه: أي ضيّقه عليه، ولم يوسع له فيه، بالنسبة لما يراه في غيره من الناس.
وفى هذه الحال يحاجّ هذا الإنسان الغافل الكفور- يحاجّ ربّه، ويلقاه متسخطا متبرما، متّهما خالقه بأنه لم يعرف قدره، ولم يؤد له ما هو جدبر به، وأنه ليس أقلّ من فلان، وفلان، من أصحاب الغنى والثراء!! وهذا ضلال مود بأهله، ومورد إياهم موارد التهلكة.
فالامتحان بالفقر، والضيق، والشدة، كالامتحان بالغنى، والثراء والنعم.
فإذا كان الامتحان بالغنى يضع الإنسان أمام شهوات عارمة، وأهواء غالبة، تحتاج لقهرها إلى رصيد عظيم من العزم، وقوة الإرادة- فإن الامتحان بالفقر والشدة، يضع الإنسان أمام عدوّ يريد أن نزعزع إيمانه، ويغتال صبره لحكم ربه، ورضاه بما قضى اللّه فيه.
قوله تعالى: {كَلَّا بَلْ لا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ وَلا تَحَاضُّونَ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ وَتَأْكُلُونَ التُّراثَ أَكْلًا لَمًّا وَتُحِبُّونَ الْمالَ حُبًّا جَمًّا}.
هو رد على ما يقوم في نفوس كثير من الناس من تلك المفاهيم الخاطئة فيما يبتليهم اللّه سبحانه وتعالى به، من غنى أو فقر، فليست التوسعة في الرزق، بالتي تعطى العبد حجة بأنه من المكرمين عند اللّه، وليس التضييق في الرزق، بالذي يدلّ على إهانة اللّه سبحانه لمن قدر عليه رزقه.. إن هذا وذاك، امتحان وابتلاء، وليس كما يظن الجاهلون بأن اللّه إنما يرزق الناس في الدنيا بحسب مكانتهم عنده، فيوسّع على أوليائه، ويضيّق على أعدائه، وأن هؤلاء الذين أفقرهم اللّه، لو كانوا من المكرمين عنده لما ضيق عليهم في الرزق، ولما وضعهم بموضع الحاجة إلى الأغنياء، وهذا ما يشير إليه سبحانه وتعالى في فضح منطقهم الفاسد، إذ يقول سبحانه على لسانهم: {أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ}؟
(47: يس).
وكلا.. فإن هذا منطق ضالّ، ورأى فاسد سقيم!! ولقد أحالهم هذا الفهم الضال إلى حيوانات، لا تعرف غير ما تملأ به بطنها من طعام، فلقد جفّت فيهم عواطف الإنسانية، وانتزعت من قلوبهم مشاعر الرحمة.
فلم يكرموا اليتيم، كما أكرمهم اللّه، ولم يحسنوا إلى الفقير، كما أحسن اللّه إليهم.
بل اغتالوا حق اليتيم، ولم يمدّوا أيديهم بإحسان إلى مسكين، وأكلوا ما يرثون أكلا جامعا، غير مستبقين شيئا لما افترض اللّه سبحانه وتعالى عليهم في هذا الميراث الذي جاءهم من غير كدّو لا عمل، فهو ليس لهم وحدهم، وإنما هو أشبه بلقطة يلتقطونها من عرض الطريق، وأن من حق من يحضرهم وهم يمدون أيديهم إلى هذا المال أن ينال نصيبا منه، إذا كان من أهل العوز والحاجة، وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: {وَإِذا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُوا الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفاً} [8: النساء].. والمراد بالقسمة هنا قسمة الميراث.. والمراد برزق أولى القربى واليتامى والمساكين من هذا الميراث- هو إعطاؤهم نصيبا منه، غير مقدّر بقدر محدود، وإنما هو فضل وإحسان.. ولقد أنكروا هذا الحق، وأكلوا الميراث كله!! وفى قوله تعالى: {أَكْلًا لَمًّا} إشارة إلى أنهم أكلوا ما لهم من حق في هذا الميراث، مع مالذوى القربى واليتامى والمساكين من حق فيه، وجمعوا هذا إلى ذاك، وأكلوه جميعه.
وقوله تعالى: {كَلَّا إِذا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا وَجاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرى يَقُولُ يا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَياتِي}.
كلا، هو ردّ على موقف هؤلاء الذين لا يكرمون اليتيم، ولا يتحاضّون على طعام المسكين، ويأكلون التراث أكلا لمّا، ويحبون المال حبّا جمّا.. إن ذلك ليس هو طريق الفلاح والنجاة، بل هو طريق الخسران، والهلاك، وإن ذلك ليبدو لهم جليّا وضحا {إِذا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا} أي إذا جاء يوم القيامة، وتبدلت معالم هذه الحياة الدنيا، وذهب كل ما جمعوا فيها، وما أقاموا من دور وقصور.. وفى التعبير عن يوم القامة، بدكّ الأرض {دكا دكا} إشارة إلى أن ما بين أيديهم من متاع الحياة الدنيا سيتحول إلى حطام وأنقاض، فيكون بعضا من هذه الأرض التي لا يبقى على وجهها شيء، مخلّفا وراءه الويل لهم، والحساب العسير على ما أكلوا من حقوق، وما ضيعوا من واجبات.
وقوله تعالى: {وَجاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا} أي جاء أمر اللّه وسلطانه ونصبت موازين الحساب، ووقف الملائكة في المحشر جندا حراسا، ينفذون أمر اللّه، ويسوقون أهل الضلال إلى النار، وأهل الإيمان إلى الجنة.
{ذلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ} [103: هود] وقوله تعالى: {وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ} برزت جهنم لأهلها، فهذا هو يومها، ويوم المنذرين بها، المعذبين فيها.. {وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرى} [36: النازعات] وقوله تعالى: {يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرى} أي في هذا اليوم يعقل الإنسان كل شيء، ويعلم عن يقين ما فاته علمه في الدنيا من حق.. ولكن لا ننفعه الذكرى، ولا يفيده العلم، فقد طويت صحف الأعمال، ولا سبيل إلى تدارك ما فات! وقوله تعالى: {يَقُولُ يا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَياتِي} إنه الندم الذي يملأ القلب حسرة وكمدا، وإنه النظر اليائس المتحسر إلى سقاء الماء وقد أربق كل ما فيه، في وسط صحراء ليس فيها قطرة ماء!! وفى قوله {لحياتى} إشارة إلى أن هذه الحياة- حياة الآخرة- هي حياة الإنسان حقا، وأن الحياة الدنيا ليست إلا معبرا إلى هذه الحياة.
قوله تعالى: {فَيَوْمَئِذٍ لا يُعَذِّبُ عَذابَهُ أَحَدٌ وَلا يُوثِقُ وَثاقَهُ أَحَدٌ} أي في هذا اليوم لا يشهد الناس عذابا كهذا العذاب الذي يعذب اللّه به أهل الضلال، ولا قيدا محكما وثيقا كهذا القيد الذي يقيدهم اللّه به، فلا يجدون سبيلا للإفلات والهرب! والضمير في عذابه، يرجع إلى اللّه، ومثله الضمير في وثاقه.
وقوله تعالى: {يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ راضِيَةً مَرْضِيَّةً} هذا النداء الكريم، الذي يدعو به اللّه سبحانه وتعالى أهل ودّه، من وسط هذا البلاء الخالق، المحيط بالناس يوم القيامة- هو قارب النجاة، الذي يخفّ مسرعا إلى تلك السفينة الغارقة في هذا البحر اللّجى، فيحمل هؤلاء الذين أكرمهم اللّه بفضله وإحسانه، فنجاهم من شر هذا اليوم، ولقاهم نضرة وسرورا.. إن هذا النداء الذي يجيء على فجاءة وسط هذا البلاء، لهو أوقع أثرا، وأبلغ في إدخال المسرة على النفس، من أن يجيء مسبوقا بمقدمات تشير إليه، وتبشّر به.
والنفس المطمئنة، هي النفس المؤمنة، التي لا يستبد بها القلق في أي حال من أحوالها، في السراء أو الضراء، إنها في حال واحدة أبدا من الرضا بما قسم اللّه لها..، فهى في السراء شاكرة، حامدة، وفى الضراء صابرة راضية، فلا الغنى يطغيها، ويخرج بها عن طريق الاستقامة، ولا الفقر يسخطها، ويعدل بها عن الاطمئنان إلى قضاء اللّه فيها، وحكمه عليها.. إنها نفس مطمئنة ثابتة، على حال واحدة في إيمانها باللّه، ورضاها بما قسم لها.. وهذا الاطمئنان وذلك الرضا، لا يجد هما إلا المؤمنون باللّه، المتوكلون عليه، المفوضون أمورهم إليه.. فالاطمئنان الذي تصيبه بعض النفوس، ويكون صفة غالبة عليها، هو ثمرة الإيمان الوثيق باللّه، القائم على أصول ثابتة من المعرفة باللّه سبحانه وتعالى، وما له جل شأنه من سلطان مطلق متمكن، قائم على كل ذرة في هذا الوجود، وأنه لا يقع في هذا الوجود شيء إلا بتقديره سبحانه، وبمقتضى حكمته وعلمه، وعدله.
وقد نودى الإنسان هنا بنفسه ولم يناد بذاته، لأن النفس هي جوهره السماوي، وهى التي كانت موطن الإيمان والاطمئنان.. وهى لهذا استحقت أن ترجع إلى ربها، وأن تنزل منازل رضوانه، إذ لم تغرق في تراب الأرض، ولم تضع معالمها فيه، كما ضاعت نفوس الضالين والغاوين.
وقوله تعالى: {راضِيَةً مَرْضِيَّةً} أي راضية بما أرضاها اللّه سبحانه به من فضله، مرضيّا عنها من ربها.. فالكلمتان حالان من أحوال النفس، وقد دعيت من ربها إلى الرجوع إليه.. إنها ترجع إلى ربها، وقد رضيت بما لقيها به ربّها من إكرام وإحسان، وقد رضى ربها عنها بما قدمت من أعمال طيبة.
فاللّه سبحانه وتعالى يرضى ويرضى، يرضى عن عباده المحسنين، ويرضيهم بإحسانه، كما يقول سبحانه: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ ما فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً}.
وفى الجمع بين صفة الرضا للنفس، والرضا من اللّه عنها- إشارة إلى أن هذا الرضا الذي تجده النفس هو رضا دائم متصل، لأنه مستمد من رضا اللّه عنها، وأنه ليس مجرد شعور يطرقها، أو خاطر يطوف بها، ثم يذهب هذا الشعور، ويغيب هذا الخاطر، مع موجات الخواطر، والمشاعر التي تموج في كيان الإنسان..!! كلا إنه رضا لا ينقطع أبدا.
وقوله تعالى: {فَادْخُلِي فِي عِبادِي وَادْخُلِي جَنَّتِي} هو دعوة إلى هذه النفس المطمئنة، بعد أن عادت إلى ربها، أن تأخذ مكانها بين عباده الذين أضافهم سبحانه وتعالى إليه، وجعلهم في مقام كرمه وإحسانه، وأدخلهم جنته التي أعدها لهم، فلتأخذ هي مكانها معهم من تلك الجنة، ولتنعم بما ينعم به عباد اللّه المكرمون، من نعيم لم تره عين، ولم تسمع به أذن، ولم يخطر على قلب بشر.. جعلنا اللّه منهم، وألحقنا بهم، إنه أهل التقوى وأهل المغفرة.

.سورة البلد:

نزولها: مكية.. بإجماع.. نزلت بعد سورة ق.
عدد آياتها: عشرون آية.
عدد كلماتها: اثنتان وثمانون. كلمة.
عدد حروفها: ثلاثمائة وواحد وخمسون حرفا.
مناسبتها لما قبلها:
الإنسان الذي ابتلاه اللّه فأكرمه ونعمه، فلم يحمد اللّه، ولم يشكر له فضله وإحسانه، والإنسان الذي قدر اللّه عليه رزقه، فساء ظنّه باللّه، وغيّر موقفه منه- هذا الإنسان- في حاليه اللذين عرضتهما سورة {الفجر} يرى في أوضح صورة في إنسان هذا البلد، وهو مكة، البلد الحرام الذي رفع اللّه قدره، وجعله حرما آمنا، يجبى إليه ثمرات كل شيء، وجعله موضعا لأول بيت يعبد فيه على هذه الأرض- هذا الإنسان الذي يعيش في هذا البلد الأمين، كان جديرا به أن يكون أعرف الناس بربه، وأرضاهم لحكمه، ولكنه لم يرع حرمة هذا البلد، فلم يكرم اليتيم، ولم يحض على طعام المسكين، وأكل التراث أكلا لما، وأحب المال حبا جمّا، أعماه عن طريق الحق، وأضله عن سبيل الرشاد.. فهل هو بعد هذه النّذر عائد إلى ربه، داخل في عباده؟ ذلك ما ستكشف عنه الأيام منه، مع دعوة الحق التي يحملها رسول اللّه إليه.. فالمناسبة بين السورتين قريبة دانية.
بسم اللّه الرّحمن الرحيم.